سورة فصلت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


قلت: {تنزيل}: خبر عن مضمر، أي: هذا تنزيل. و{كتاب}. بدل من {تنزيل}، أو: خبر بعد خبر، و{تنزيل}: مبتدأ. و{من الرحمن}: صفة، و{كتاب}. خبره، و{قرآناً}: منصوب على الاختصاص والمدح، أو: حال، أي: فُصِّلت آياته في حال كونه قرآناً. و{لقوم}: متعلق بفُصِّلت، أو: صفة، مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآناً عربياً كائناً لقوم يعلمون. و{بشيراً ونذيراً}: صفتان ل {قرآناً}.
يقول الحق جلّ جلاله: {حم}؛ يا محمد هذا {تنزيلٌ}، قاله القشيري: أي: بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي، هذا تنزيلٌ {من الرحمن الرحيم}. ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {كتاب فُصّلت آياتُه}؛ مُيزت وجُعلت تفاصيل في أساليب مختلفة، ومعانٍ متغايرة؛ من أحكام، وتوحيد، وقصص، ومواعظ، ووعد، ووعيد وغير ذلك، {قرآناً عربياً} أي: أعني قرآناً بلسان العرب كائناً {لقوم يعلمون} معانيه، ويتدبّرون في آياته؛ لكونه على لسانهم، أو: لأهل العلم والنظر؛ لأنهم المنتفعون به.
{بشيراً ونذيراً}؛ بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية، {فأعْرَض أكثرُهم} عن الإيمان به والتدبُّر في معانيه مع كونه على لغتهم، {فهم لا يسمعون} سماع تفكُّر وتأمُّل، حتى يفهموا جلالة قدره؛ فيؤمنوا به.
{وقالوا} للرسول عليه الصلاة والسلام عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن: {قلوبنا في أَكِنَّةٍ} أي: أغطية متكاثفة، {وفي آذاننا وَقْر}؛ صمم وثِقَل يمنعنا من استماع قولك، {ومن بيننا وبينك حجاب} غليظ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك. و{من} للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة، ولم يبق ثمَّ فراغ أصلاً. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله، ومج أسماعهم له، كأنَّ بها صمماً وثِقلاً منعهم من موافقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا: {فاعمل} على دينك وإبطال ديننا، {إِننا عاملون} على ديننا، لا نفارقه أبداً.
{قُلْ إِنما أنا بشر مثلُكم يُوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهكُم إِله واحد}، هذا تلقين للجواب عنه، أي: لستُ من جنسٍ مباينٍ لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبىء عنه قوله: {فاعلم إننا عاملون}، بل إنما أنا بشر مثلكم، مأمور بما أُمرتم به من التوحيد، حيث أخبرنا جميعاً بأن إلهنا واحد، فالخطاب في {إلهكم} محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة. وقيل: لمّا دعاهم إلى الإيمان، قالوا: إنا نراك مثلنا، تأكل وتشرب، فلو كنتَ رسولاً لاستغنيت عن ذلك، فأنزل: {قل إنما أنا بشر.
..} الآية.
{فاستقيموا إِليه} بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يميناً وشمالاً، ولا ملتفتين إلى ما يُسوّل لكم الشيطانُ من عبادة الأصنام... قال تعالى: {واستغفروه} مما كنتم عليه من سوء العقيدة. والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة، {وويل للمشركين}، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد.
ووصفهم بقوله: {الذين لا يؤتون الزكاة} أي: لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يُعطونها، وهو إخبار بما سيقع، إذ لم تكن الزكاة حينئذ مفروضة، أو: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان. وفيه تحذير من منع الزكاة، حيث جعله من أوصاف المشركين. {وهم بالآخرة هم كافرون} أي: وهم بالبعث والثواب والعقاب كافرون. والجملة: عطف على {يؤتون} داخل في الصلة. وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وصدق نيته، وخلوص طويته، وما ارتدت العرب إلا بمنعها.
{إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ}؛ غير مقطوع، من: مننت الحبل: قطعته، أو: غير ممنون به عليهم. وقيل: نزلت في المرضى والهَرْمَى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
الإشارة: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الإيمان بالقرآن والعمل به، وخلفاؤه من مشايخ التربية يدعون إلى تصفية البواطن، لتتهيأ لفهمه والغوص عن أسراره، وحضور القلب عند تلاوته، فأعرض أكثرُ الناس عن صُحبتهم، {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه...} إلى تمام الآية. فبقيت قلوبهم مغلفة بسبب الهوى، ألسنتهم تتلو وقلوبهم تجول في أودية الدينا، فلا حضور ولا تدبُّر، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا طلَبوا من المشايخ الذين هم أطبّة القلوب الكرامة، يقولون ما قالت الرسل: إنما نحن بشر يُوحى إلينا وحي إلهام بوحدانية الحق، وانفراده بالوجود، فاستقيموا إليه بتصفية بواطنكم، واستغفروه من سالف زلاتكم، فإن بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك ورؤية السِّوى، فويل للمشركين الذين لا يُزكُّون أنفسهم، وهم بالآخرة حيث لم يتأهّبوا لها كلَّ التأهُّب هم الكافرون. إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، بصحبة الخصوص، لهم أجر غير ممنون، وهو شهود الحق على الدوام. والله تعالى أعلم.


قلت: {وتجعلون}: عطف على {تكفرون}. و{جَعَلَ}: عطف على {خَلَقَ} داخل في حيز الصلة، و{سواء}: مَن نَصَبَه فمصدر أي: استوت سواء. ومَن جَرَّه فصفة لأيام، ومَن رفعه فخبر هي سواء. و{للسائلين}: متعلق بقدّر، أو: بمحذوف، أي: هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خلقَ الأرضَ في يومين} وهما الأحد والاثنين، تعليماً للتأني، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل. {وتجعلون له أنداداً}؛ شركاء وأشباهاً. والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد، فضلاً عن التعدُّد، وكيف يكون الحادث المعدوم ندّاً للقديم؟! {ذلك} الذي خلق ما سبق. وما في الإشارة من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبُعد منزلته في العظمة، أي: ذلك العظيم الشأن هو {ربُّ العالمين} أي: خالق جميع الموجودات ومُربِّيها، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق نِدّاً له؟!
{وجعل فيها رواسي}؛ جبالاً ثوابت كائنة {من فوقها}، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال مُعرَضة لأهلها، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعبتار، ومطارح الأفكار، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها ممسَكة بقدرة الله عزّ وجل. {وباركَ فيها} أي: قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع، ويجعل فيها من المصالح، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النعم. {وقدّر فيها أقواتَها} أي: حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار مُعين، تقتضيه الحكمة والمشيئة، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار، وقيل: خصابها التي قسمها في البلاد. جعل ذلك {في أربعةِ أيام} أي: تتمة أربعة أيام، يومين للخلق، ويومين لتقدير الأقوات، كما تقول: سِرت إلى البصرة في عشرة، وإلى الكوفة في خمسة عشر، أي: في تتمة خمسة عشر، ولو أجري الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام؛ يومين للخلق؛ وأربعة للتقدير، ويومين لخلق السماء، وهو مناقض لقوله: {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
وقوله: {سواء} راجع للأربعة، أي: في أربعة أيام مستويات تامات، أو: استوت سواء {للسائلين} أي: قدَّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها، لأن كلاًّ يطلب القوت ويسأله، أو هذا الحصر في هذه الأيام لأجل مَن سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟
{ثم استوى إِلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين}، الاستواء مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد، تقول العرب: فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، أو قصد وانتهى. فالاستواء إذا عدي ب إلى فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير، وإذا عدّي ب على فبمعنى الاستعلاء، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض، وهو كذلك، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء، كما صرح في قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ} [النازعات: 30]، والترتيب في الخارج: أنه خلق الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض في يومين، ف ثم للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب، أو: للتفاوت في المرتبة، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، كقول القائل:
إِنْ مَنْ ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد ساد بعد ذلك جَدُّه
وفي بعض الأحاديث: «إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعُمران والخراب، فتلك أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة» وهي الساعة التي تقوم فيها الساعة. قاله النسفي، وفي حديث مسلم ما يخالفه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما خلق الله أي: بعد العرش جوهرة طُولها وعرضها ألف سنة، فنظر إليها بالهيبة، فذابت وصارت ماء، فكان العرش على الماء، فاضطرب الماء، فثار منه دخان، فارتفع إلى الجو، واجتمع زيد، فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضاً، ثم فتقها سبعاً، والدخان سماء، فسوّاهن سبع سموات.
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعاً أو كرهاً وامتثالهما؛ أنه أراد أن يُكوّنهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدتَا كما أراد، وكانتا في ذلك كالمأمور والمطيع، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان، مع أن الأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؛ لأن المعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي: ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائتي يا سماء مبنية سقفاً لهم، ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع.
وقوله: {طوعاً أو كَرهاً} لبيان تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما عن قدرته مُحال؛ كما تقول لمَن تحت يدك: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، طوعاً أو كرهاً. وقال ابن عطية: الأمر بالإتيان بعد اختراعهما، قال: وهنا حذف، أي: ثم استوى إلى السماء فأوجدها، وأتقنها، وأكمل أمرها، وحينئذ قال لها وللأرض: ائتيا لأمري وإرادتي فيكما، والمراد: تنجيزهما لما أراده منهما، وما قدر من أعمالهما. اهـ. حُكي أن بعض الأنبياء قال: يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما: ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك، ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنتُ آمر دابة من دوابي فتبتلعهما، قال: وأين تلك الدابة؟ قال: في مرج من مروجي، قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علومي.
وانتصاب {طوعاً أو كرهاً} على الحال، أي: طائعين أو مكرهين. ولم يقل {طائعتين}؛ لأن المراد الجنس، أي: السموات والأرضين، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره، اللذين من وصف العقلاء، وقال: طائعين في موضع طائعات؛ تغليباً للتذكير؛ لشرفه، كقوله: {سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
{فقضاهنّ سبعَ سماواتٍ} أي: فأحكم خلقهن، وأتقن أمرهن سبعاً، حسبما تقتضيه الحكمة، فالضمير راجع إلى السماء، لأنه جنس، يجوز أن يكون الضمير مبهماً مفسراً بقوله: {سبع سماوات}، فينتصب سبع على الأول حالاً، وعلى الثاني تمييزاً. حصل ذلك القضاء {في يومين}؛ الخميس والجمعة، أي: في وقتين قدر يومين، فكان المجموع ستة أيام، {وأَوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} أي: أوحى إلى ساكنها وعُمّارها من الملائكة في كل سماء ما شاء الله من الأمور، التي تليق بهم، كالخدمة وأنواع العبادة، وإلى السماء في نفسها ما شاء الله من الأمور التي بها قوامها وصلاحها.
{وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح}؛ كالشمس والقمر والنجوم، وهي زينة السماء الدنيا، سواء كانت فيها أو فيما فوقها؛ لأنها تُرى متلألأة عليها كأنها فيها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها، {وحفظاً} أي: حفظناها حفظاً من المسترقة، أو من الآفات، فهو مصدر لمحذوف، وقيل: مفعول لأجله على المعنى، أي: وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ. {ذلك تقديرُ العزيز العليم} أي: ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ في القدرة والعلم، أو: الغالب العليم بمواقع الأمور.
الإشارة: خلق الحق تعالى أرض النفوس محلاًّ للعبودية، وأرساها بجبال العقل، لئلا تميل إلى بحر الهوى، وبارك فيها، بأن جعل فيها صالحين وأبراراً، وعباداً وزهاداً، وعُلماء أتقياء، وقدّر لها أقواتها الحسية والمعنوية، فجعل الحسية سواء للسائلين، أي: مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب، ولا ينقص، ففيه تأديب لمَن لم يرضَ بقسمته، والأرزاق المعنوية: أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة، يزيد بالطلب والتعب، وينقص بنقصانه، حكمة من الحكيم العليم، ثم استوى إلى سماء الأرواح، أي: قصدها بالدعاء إليه، وهي لطائف، فقال لها ولأرض النفوس: ائتيا إلى حضرتي، طوعاً أو كرهاً، قالتا: أتينا طائعين، فقضاهن سبع طبقات، وهي دوائر الأولياء، دائرة الغوث، ثم دائرة الأقطاب، ثم الأوتاد، ثم النقباء، ثم النجباء، ثم الأبرار، ثم الصالحين. وأوحى في كل سماء، أي: في كل دائرة ما يليق بها من العبادة، فمنهم مَن عبادته الشهود والعيان، ومنهم مَن عبادته الفكرة، ومنهم الركوع والسجود، ومنهم التلاوة والذكر... إلى غير ذلك من أنواع الأعمال.
قال القشيري: وجعل نفوسَ العابدين، أرضاً لطاعته وعبادته، وجعل قلوبهم فَلَكاً لنجوم علمه، وشموس معرفته، فأوتاد النفوس الخوفُ والرجاءُ، والرغبةُ والرهبة، وفي القلوب ضياءُ العرفان، وشموس التوحيد، ونجوم العلوم والعقول، والنفوس والقلوب، بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه. وقال في قوله: {وجعل فيها رواسي من فوقها}: الجبالُ أوتادُ الأرض، في الصورة، والأولياءُ رواسي الأرض في الحقيقة، بهم تنزل البركة والأمطار، وبهم يُدفع البلاء. ثم قال: قوله تعالى: {وزيَّنا السماء الدنيا بمصابيح} وزيَّن وجه الأرض بمصابيح، وهي قلوب الأحباب، فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء الله بالليل، فذلك متنزهُهُم، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنّسوا برؤية الكواكب. اهـ.


قلت: {وأما ثمود}، قراءة الجماعة بالرفع، غير مصروف، إرادة القبيلة، وقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب مصروفاً، إرادة الحي، وقراءة ابن أبي إسحاق: بالنصب، من باب الاشتغال، وأصل الكلام: مهما يكن من شيء فثمود هديناهم، فحُذف الملزوم الذي هو الشرط، وأُقيم مقامه لازمه، وهو الجزاء، وأبقيت الفاء المؤذنه بأن ما بعدها لازم لما قبلها، وإلا فليس هذا موضع الفاء؛ لأن موضعه صدر الجزاء. انظر المُطوّل.
يقول الحق جلّ جلاله: {فإِن أعرضُوا} عن الإيمان بعد هذا البيان؛ {فقلْ} لهم: {أنذرتُكمْ}؛ خوَّفتكم. وعبّر بالماضي للدلالة على تحقُّق الإنذار المنبىء عن تحقُّق الوقوع، {صاعقةً} أي: عذاباً شديداً لو وقع كان كأنه صاعقة، وأصلها: رعد معه نار تحرق. تكون {مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ} وقد تقدّم عذابهما.
{إِذ جاءتْهُمُ}: ظرف لمحذوف، أي: أنزلناها بهم حين جاءتهم {الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفِهِم} أي: أتوهم من كل جانب، وعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا الإعراض، أو: جاءتهم الرسل قبلهم لآبائهم، وبعدَهم لِمَن خلفهم، أي: تواردت عليهم الرسل قديماً وحديثاً، والمعهود إنما هو هود وصالح عليهما السلام وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله بمَنْ قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، {ألاَّ تعبدوا إِلا اللهَ} أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، على أنها مصدرية، أو: لا تعبدوا، على أنها مفسرة، وقيل: مخففة، أي: أنه لا تعبدوا إلا الله. {قالوا لو شاء ربُّنا لأنزل ملائكةً} أي: لو شاء إرسال الرسل لأرسل ملائكة، ولَمَّا كان إرسالهم بطريق الإنزال عبَّر به، {فإِنا بما أُرسلتُم به كافرون} أي: فحيث كنتم بشراً مثلنا، ولم تكونوا ملائكة، ولم يكن لكم فضل علينا، فإنا لا نؤمن بكم، ولا بما جئتم به، وقولهم: {أُرسلتم به} ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكُّم، كما قاله فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وقولهم: {بما أرسلتم به كافرون} خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء، الذين دعوا للإيمان.
رُوي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة، فكَلَّمه، ثم أتانا بالبيان من أمره، فقال عُتبة بن ربيعة: والله لقد سمعتُ الشعر والكهانة والسحر، وعلمتُ من ذلك علماً ما يخفى عليَّ، فأتاه، فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت يا محمد خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبمَ تشتم آلهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوةٍ من أيّ بنات قريش شئتَ، وإن كان بك المال، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك.
والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ عتبةُ، قال صلى الله عليه وسلم: «{بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم...} إلى قوله تعالى: {مثل صاعقة عاد وثمود}»، فأمسك عتبة على فِيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم، فرجع عبتةُ إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم، قالوا: ما نرى عتبة إلا صبأ، فانطلقوا، وقالوا: يا عتبة؛ ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد، أم أنك أعجبك طعامه؟ فغضب، ثم قال لهم: لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو شعر، ولا كهانة، ولا سحر، ثم تلى عليهم ما سمع منه إلى قوله: {مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكتُ بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفتُ أن ينزل بكم العذاب. اهـ.
ثم بيَّن ما ذكره من صاعقة عاد وثمود، فقال: {فأما عاد فاستبكروا في الأرض بغير الحق} أي: تعاظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم، وهو القوة، وعظم الأجرام، واستولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية، {وقالوا مَن أشدُّ منا قوةً}، كانوا ذوي أجسام طوال، وخلْق عظيم، بلغ من قوتهم أن الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده، ويلوي الحديد بيده، {أوَلَمْ يَرَوا} أي: أَوَلَم يعلموا علم عيان {أن الله الذي خلقهم هو أشَدُّ منهم قوةً}؟ أوسعُ منهم قدرة؛ لأنه قادر على كل شيء، وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره، {وكانوا بآياتنا} المنزلة على رسلهم {يجحدون} أي: ينكرونها وهم يعرفون حقِيتها، كما يجحد المودَعُ الوديعة. و{هم}: عطف على {فاستكبروا}، وما بينها اعتراض، للرد على كلمتهم الشنعاء.
{فأرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً} أي: بارداً تهلك وتُحرق؛ لشدة بردها، من: الصر، وهو البرد، الذي يجمع ويقبض، أو: عاصفة تصوّت في هبوبها، من الصرير، فضوعف، كما يقال: نهنهت وكفكفت. {في أيام نَّحِساتٍ}؛ مشؤومات عليهم، من: نَحِس نحساً، نقيض: سعد سعداً، وكانت من الأربعاء آخر شوال إلى الأربعاء، وما عُذِّب قوم إلا في الأربعاء. قيل: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودامت الرياح عليهم من غير مطر. قيل: إذا أراد الله بقوم خيراً، أرسل عليهم المطر، وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرّاً، حبس عنهم المطر، وأرسل عليهم كثرة الرياح. اهـ.
{لنُذيقَهُمْ عذابَ الخزي في الحياة الدنيا}، أضاف العذاب إلى الخزي، وهو الذل، على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزي، ويدل عليه قوله: {ولعذابُ الآخرة أخزى} أي: أذل لصاحبه، وهو في الحقيقة وصف للمعذَّب، وُصف به العذاب للمبالغة، كقولك: له شعر شاعر. {وهم لا يُنصَرُون} برفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
{وأما ثمودُ فهديناهمْ}؛ دللناهم على الرشد، بنصب الآيات التكوينية، وإرسال الرسل، وإنزال الآيات التشريعية، {فاستحبُّوا العَمَى على الهُدى} أي: اختاروا الضلالة على الهداية، {فأخذتهم صاعقةُ العذابِ الهُون} أي: داهية العذاب الذي يهين صاحبه ويخزيه، وهي الصيحة والرجفة، والهُون: الهوان، وصف به للمبالغة، {بما كانوا يكسبون} أي: بكسبهم الخبيث من الشرك والمعاصي.
قال الشيخ أبو منصور: يحتمل قوله: {فهديناهم}: بيَّنا لهم، كما تقدّم، ويحتمل: خلق الهداية في قلوبهم، فصاروا مهتدين، ثم كفروا بعد ذلك، وعقروا الناقة، لأن الهدي المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان، ويكون بخلق فعل الاهتداء، وأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان، لا غير. اهـ.
وقال الطيبي: قوله تعالى: {فهديناهم} هو كقوله تعالى: {إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} [فصلت: 14]. وقوله: {فاستحبوا العمى على الهدى} هو كقوله: {قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا...} [فصلت: 14] الآية. وكذا في قوله: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض}، فإن الفاء في {فاستكبروا} فصيحة، تُفصح عن محذوف، أي: فهديناهم فاستكبروا بدلالة ما قيل في ثمود. اهـ.
{ونجينا الذين آمنوا} أي: اختاروا الهدى على العمى، من تلك الصاعقة، {وكانوا يتقون} الضلالة والتقليد.
الإشارة: كل مَن أعرض عن الوعظ والتذكار، ونأى عن صُحبة الأبرار؛ فالصعقة لاحقة به، إما في الدنيا أو في الآخرة. وقوله تعالى: {فأما عاد فاستكبروا...} الآية: أوصاف العبودية أربعة: الضعف، والذل، والفقر، والعجز، فمَن خرج عن واحد منها، فقد تعدّى طوره، واستحقّ الهلاك والهوان، ورمته رياح الأقدار في مهاوي النيران.
وقوله: {وأما ثمود فهديناهم} أي: بيَّنا لهم طريق السير إلينا، على ألسنة الوسائط، فحادُوا عنها، واستحبُّوا العمى على الهدى؛ حيث لم يسبق لهم الهداية في الأزل، فالسوابق تُؤثر في العواقب، والعواقب لا تؤثر في السوابق، فكأن جبلة القوم الضلالة، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة.
وقوله تعالى: {ونجينا الذين آمنوا} أي: في الدنيا من الصاعقة، وفي الآخرة من السقوط في الهاوية. قال القشيري: منهم مَن نجَّاهم من غير أن رأوا النار، عَبَروا القنطرةَ ولم يعلموا، وقومٌ كالبرق الخاطف، وهم أعلاهم قلت: بل أعلاهم كالطرف ثم قال: وقوم كالرواكض، وهم أيضاً الأكابر، وقوم على الصراط يسقطون وتردُّهم الملائكة على الصراط، فبَعُدوا. ثم قال: وقومٌ بعدما دخلوا النار، فمنهم مَن تأخذه إلى كعبيه، ثم إلى ركبتيه، ثم إلى حَقْوَيْه، فإذا بلغ القلب قال الحقُّ للنار: لا تحرقي قلبه، فإنه محترقُ بي. وقوم يخرجون من النار بعدما أمْتُحِشُوا فصاروا حُمَماً. ه منه

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6